السودان- حرب بالوكالة، فظائع غير مسبوقة، ومستقبل مجهول

المؤلف: ركابي حسن يعقوب09.08.2025
السودان- حرب بالوكالة، فظائع غير مسبوقة، ومستقبل مجهول

مع دخول الحرب في السودان عامها الثالث هذا الأسبوع، تتفاقم المأساة الإنسانية والاقتصادية، وتتراكم الخسائر الفادحة. على الرغم من ذلك، يظلّ حصر عدد الضحايا بدقة أمرًا متعذرًا. التقديرات المتوفرة، وإن كانت تقريبية، تشير إلى أنّ الأرقام الحقيقية للقتلى والجرحى تتجاوز بكثير ما هو معلن، وذلك بسبب صعوبة الوصول إلى مناطق القتال الشرس، وتعطّل معظم المرافق الصحية، بالإضافة إلى تكتّم مليشيا الدعم السريع على الضحايا في المناطق الخاضعة لسيطرتها تفاديًا للمساءلة.

وفيما يتعلق بالنزوح واللجوء، تشير الإحصائيات المقلقة إلى أنّ ما يقارب 15 مليون شخص قد أُجبروا على مغادرة ديارهم في مناطق سيطرة مليشيا الدعم السريع، ولجأوا إلى المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوداني. كما أنّ حوالي 7 ملايين نسمة قد عبروا الحدود إلى الدول المجاورة بحثًا عن الأمان من أهوال الحرب.

يُذكر أنّ خوسيه مارتي، المفكر والسياسي والصحفي والشاعر والفيلسوف الكوبي ذي الأصول الإسبانية الذي عاش في القرن التاسع عشر، وأحد رموز الحداثة، كان يكنّ تقديرًا عميقًا للحضارة الإسلامية والعربية.

لقد ترك لنا خوسيه مقولة بليغة: "مجرم من يخوض حربًا يمكن تفاديها، ومجرم من لا يخوض حربًا لا يمكن تفاديها".

هذه الحكمة الخالدة لخوسيه مارتي يمكن أن تكون مفتاحًا لفهم الأحداث الدامية التي شهدها السودان منذ فجر الخامس عشر من أبريل/ نيسان 2023، عندما أطلقت مليشيا الدعم السريع أول رصاصة معلنةً بذلك سعيها للاستيلاء على السلطة بالقوة الغاشمة.

الشطر الأول من مقولة خوسيه، "مجرم من يخوض حربًا يمكن تفاديها"، ينسحب تمامًا على مليشيا الدعم السريع وحلفائها السياسيين، الذين عُرفوا آنذاك بقوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي.

كان بإمكان هذا التحالف، بشقّيه العسكري والسياسي، أن يجنّب البلاد ويلات الحرب لو أنه أظهر مرونة أكبر في التعامل مع ما يُعرف بالاتفاق الإطاري، وأخضعه لمزيد من المشاورات والنقاشات المستفيضة، وأتاح المجال لمشاركة أوسع من القوى السياسية الأخرى والرأي العام السوداني في صياغته، وتقبّل إدخال تعديلات جوهرية عليه تأخذ في الاعتبار الهواجس والتحفظات التي أبدتها المؤسسة العسكرية والقوى السياسية الأخرى بشأن بعض بنوده، ممّا كان سيؤدي إلى توافق وطني شامل ونزع فتيل الأزمة.

بيد أنّ مليشيا الدعم السريع وحلفاءها السياسيين تعمّدوا فرض الاتفاق الإطاري على الأطراف الأخرى دون أي تعديل، وقرنوا دعوتهم القسرية بتهديد مبطن بأنّ البديل عن الموافقة عليه هو الحرب الشاملة، ممّا أدخل البلاد في حالة من الاحتقان السياسي الشديد، وبدأت بوادر المواجهة تلوح في الأفق وتتوسع رقعتها مع مرور الوقت حتى وقوع الانفجار الكبير.

لاحقًا، انكشف أنّ الاتفاق الإطاري لم يكن سوى "قميص عثمان" رفعته المليشيا وحلفاؤها السياسيون للتغطية على مخططهم الشيطاني للاستيلاء على السلطة، ممّا يجعلهم يستحقون بجدارة، بحسب مقولة خوسيه، صفة المجرمين.

أما الشطر الثاني من مقولة خوسيه، "ومجرم من لا يخوض حربًا لا يمكن تفاديها"، فيصف بدقة موقف الحكومة السودانية والقوات المسلحة السودانية، التي وجدت نفسها مضطرة لخوض الحرب التي أشعلتها المليشيا وحلفاؤها، والقيام بواجبها الدستوري الأصيل في الدفاع عن سيادة البلاد ووحدتها، وصدّ العدوان الذي يهدد وجود الدولة السودانية. والتقاعس عن القيام بهذا الدور يُعدّ تقصيرًا يرقى إلى مستوى الجريمة. لذا، كانت الحرب بالنسبة للجيش السوداني خيارًا لا مفرّ منه.

لقد طال أمد الحرب، التي تصوّرت المليشيا أنها ستحقق أهدافها في غضون ساعات قليلة في اليوم الأول، أو على أبعد تقدير خلال اليوم التالي، لتجد البلاد بأكملها تحت سيطرتها. لكن هذا لم يحدث، وهو ما يجسد إحدى أهم الحقائق التي أثبتتها الحروب على مر التاريخ: "من السهل أن تبدأ الحرب، لكن من الصعب أن توقفها!".

ويبدو أنّ هذه الحقيقة البديهية لم تكن ضمن حسابات مخططي انقلاب المليشيا على السلطة، خاصّة وأنّهم كانوا يواجهون جيشًا نظاميًا عريقًا يتمتع بخبرة قتالية واسعة، ويمتلك مختلف أنواع الأسلحة، ويتفوق على المليشيا في جوانب عديدة، ويعرف كيف يخطط للفوز بالمعارك وتحقيق النصر النهائي.

أحد الأسباب المحورية التي أدت إلى إطالة أمد الحرب في السودان هو التدخل السافر للأطراف الخارجية التي تدعم المليشيا وحلفاءها سياسيًا وعسكريًا ولوجستيًا ودعائيًا. هذه الأطراف مصرّة على استمرار الحرب، وتواصل تقديم الدعم اللوجستي للمليشيا رغم الخسائر الفادحة والمتتالية التي تتكبدها، والتي تسارعت وتيرتها بشكل ملحوظ خلال الأشهر الستة الأخيرة.

هذا الإصرار الغريب من جانب القوى الأجنبية على إشعال نار الحرب، على الرغم من الخسائر المتزايدة، يثير الكثير من التساؤلات حول الأهداف الحقيقية والمدفوعة التي تسعى هذه القوى إلى تحقيقها.

تصنيف الحرب في السودان

سارعت العديد من الجهات حول العالم، ولا سيما وسائل الإعلام الغربية ومراكز الدراسات السياسية والإستراتيجية، إلى تصنيف الحرب في السودان على أنها حرب أهلية، وهو تصنيف أراه غير دقيق ومضلل.

فالحرب في السودان لا يمكن بأي حال من الأحوال إدراجها تحت هذا التصنيف؛ لأنها لا تستوفي المعايير الأساسية والجوهرية التي تجعلها تصنف على أنها "حرب أهلية".

الحرب الأهلية هي صراع مسلح يدور داخل حدود الدولة، وتكون أطرافه جماعات متناحرة من مواطني الدولة نفسها، تتصارع حول قيمة واحدة في معادلة صفرية، حيث تكون خسارة طرف مكسبًا للطرف أو الأطراف الأخرى. وتتنوع أشكال هذه القيمة المتنازع عليها بحسب دوافع الأطراف، مثل الحصول على الاستقلال أو الحكم الذاتي لإقليم معين، أو سعي طرف للسيطرة على الدولة بأكملها على أساس عرقي.

هذا التعريف لا ينطبق على الحرب الدائرة في السودان، والتي تدور رحاها بين الجيش السوداني، وهو المؤسسة الدفاعية الرسمية التي تضم في صفوفها وتشكيلاتها العسكرية جميع أعراق ومكونات الشعب السوداني في مختلف أنحاء البلاد، وبين مليشيا الدعم السريع وحلفائها السياسيين، الذين ينتمون إلى مكونات عرقية مختلفة تمردت على الدولة وحاولت الاستيلاء على السلطة لمجرد السلطة.

بالطبع، لا يمكن تصنيف الحرب في السودان على أنها حرب نظامية بين السودان ودولة أو دول أخرى، على الرغم من الدعم السخي الذي تقدمه بعض الدول الإقليمية لمليشيا الدعم السريع، والكشف عن وجود أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب المرتزقة داخل صفوف المليشيا.

هذا الدعم لا يُعتبر تدخلًا عسكريًا مباشرًا من هذه الدول، وإن كان يشير إلى تصعيد خطير في العلاقات معها، وقد يؤدي في نهاية المطاف إلى مواجهة مباشرة إذا استمر التوتر في التصاعد إلى مستويات لا تطاق.

في اعتقادي، أنّ التصنيف الأنسب والأكثر دقة للحرب في السودان هو أنها حرب بالوكالة (War by proxy)، وهي حرب بالوكالة ذات طبيعة معقدة، حيث تحارب مليشيا الدعم السريع الجيش السوداني بالوكالة عن داعميها الإقليميين، بعد أن فقدت هدفها الأساسي في الأسبوع الأول من الحرب، وهو الاستيلاء على السلطة. أما الداعمون الإقليميون، فقد أصبحوا هم أيضًا بلا هدف واضح، ويقدمون دعمهم للمليشيا بالوكالة عن المستفيدين الدوليين.

انتهاكات وفظائع غير مسبوقة

تميزت الحرب في السودان بوقوع انتهاكات مروعة وجرائم فظيعة لم يشهدها السودان من قبل، وعلى رأس هذه الجرائم الشنيعة جريمة الإبادة الجماعية التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع بحق قبيلة (المساليت) في غرب دارفور، وتحديدًا في مدينة الجنينة، والتي وثقتها كبرى الصحف الغربية.

ففي غضون فترة وجيزة لم تتجاوز الشهرين، تمّ إبادة ما لا يقلّ عن عشرين ألفًا من أفراد هذه القبيلة على أيدي قوات مليشيا الدعم السريع، استنادًا إلى دوافع عرقية بحتة. لم ينجُ من القتل الأطفال ولا كبار السن ولا ذوو الاحتياجات الخاصة. استخدمت المليشيا كافة أنواع الأسلحة النارية في هذه الجريمة البشعة، التي بدأتها بقتل والي ولاية غرب دارفور خميس أبكر بطريقة وحشية، ومثّل الجنود بجثته بطريقة لا تمتّ للإنسانية بصلة، وشاهد العالم أجمع هذه الجريمة المروعة عبر الصور ومقاطع الفيديو التي قام الجنود القتلة بتصويرها بهواتفهم المحمولة ونشرها بكل فخر على وسائل التواصل الاجتماعي!

كما ارتكبت مليشيا الدعم السريع مجازر بشعة في العاصمة الخرطوم وولايات الجزيرة وسنار والنيل الأزرق والنيل الأبيض، حيث قُتل المئات من المدنيين على يد عناصر المليشيا. تمّ توثيق العديد من حالات الاغتصاب والعنف الجنسي، وحرق المحاصيل الزراعية، والنهب والسرقة، وتخريب وتدمير المنشآت المدنية والخدمية، وتهجير السكان من قراهم.

شملت انتهاكات مليشيا الدعم السريع أيضًا الاعتقال التعسفي في ظروف غاية في السوء، حيث احتجزت المليشيا الآلاف من المدنيين وقدامى العسكريين في معسكرات اعتقال سيئة السمعة، ومارست عليهم صنوفًا من التعذيب الجسدي والنفسي والتجويع الممنهج والإرهاق بأعمال شاقة ومميتة، ممّا أدى إلى وفاة أعداد كبيرة منهم جرّاء التعذيب وسوء التغذية.

تمّ اكتشاف مقابر جماعية وحاويات مليئة بالجثث المحترقة لأسرى ومعتقلين كانوا محتجزين لدى الدعم السريع، حيث تمّ حرق هذه الجثث داخل الحاويات. كما تمّ العثور على جثث لمواطنين قُتلوا داخل منازلهم، بمن فيهم أطفال أبرياء.

الوضع العسكري الراهن

العاصمة الخرطوم

تمّ تحرير العاصمة بالكامل تقريبًا، باستثناء بعض الجيوب الصغيرة في جنوب وغرب أم درمان، والتي تُعتبر آخر معاقل الدعم السريع في محيط الخرطوم.

حرب المسيّرات

في أعقاب هزيمتها النكراء في العاصمة الخرطوم، كثّفت مليشيا الدعم السريع من استخدام الطائرات المسيّرة، وأطلقتها بشكل متكرر على المدن في ولايتي نهر النيل والشمالية شمالي السودان، مستهدفة الأسواق والأحياء السكنية ومنشآت توليد الكهرباء في سد مروي، الذي يغذي معظم مدن السودان بالطاقة الكهربائية.

ويشير خبراء عسكريون إلى أنّ بعض هذه المسيّرات ذات قدرات إستراتيجية، ويتم إطلاقها من مسافات بعيدة، ممّا يرجّح أنّ الكثير منها يُطلق من خارج الحدود.

مدينة الفاشر

تُعتبر الفاشر من أهم مدن إقليم دارفور، وتحمل رمزية تاريخية كبيرة. ظلت مليشيا الدعم السريع تفرض عليها حصارًا خانقًا لأشهر طويلة، وتحاول اقتحامها مرارًا وتكرارًا دون جدوى. هذه المدينة ذات أهمية إستراتيجية كبيرة بالنسبة للمليشيا، حيث يرى قادتها أنّ السيطرة عليها ستمكنهم من بسط نفوذهم على بقية إقليم دارفور.

لتحقيق هذا الهدف الخبيث، تواصل المليشيا حشد قواتها، وتجميع فلولها الهاربة من العاصمة الخرطوم، واستجلاب المرتزقة الأجانب بأعداد كبيرة من أجل تحقيق هدفها النهائي بالسيطرة على الفاشر.

وتقوم المليشيا بشكل يومي بإطلاق الصواريخ وقذائف المدفعية الثقيلة على مدينة الفاشر، مع التركيز بشكل خاص على معسكرات النازحين، ولا سيما معسكر (زمزم) المكتظ بأعداد هائلة من النازحين، معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن، الذين لقي الكثيرون منهم حتفهم نتيجة القصف العشوائي.

معركة فك الحصار عن الفاشر

أعدّ الجيش السوداني والقوات المساندة له العدة لفك الحصار الظالم عن الفاشر وتوجيه الضربة القاضية لمليشيا الدعم السريع. فسيطرة الجيش على الفاشر ستفتح له الطريق للسيطرة على بقية ولايات دارفور بسهولة، ممّا يعني النهاية الحتمية لمليشيا الدعم السريع، التي لم يتبقَّ لها وجود عسكري في السودان إلا في دارفور.

وبحسب المعطيات الميدانية الراهنة، فإنّ نجاح الجيش السوداني في فك الحصار عن الفاشر، على غرار تحريره للعاصمة الخرطوم، سيكون بمثابة نقطة تحول حاسمة، وسيذكر التاريخ هذا الحدث على أنه إيذان بنهاية حرب شرسة تميزت معاركها بالضراوة والاستمرارية، وغابت عنها الهدن. حرب لم تحظَ بالاهتمام الكافي من المجتمع الدولي ومنظماته والقوى الدولية الفاعلة، التي اكتفت بدور المتفرج السلبي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة